صانع نهضة سنغفوره الحديثه يقول في الرياض : لو كنتُ سعودياً !

[طاغور]

لو كنت سعودياً

علي سعد الموسى
ضمن فعاليات منتدى التنافسية الثاني الذي انقضى الأسبوع الماضي بالرياض، تحدث مؤسس سنغافورة الحديثة ورئيسها الأسبق، لي كوان يوـ متلبسا عنوانا براقا وهو يقول: لو كنت سعودياً.
العنوان الذي اختاره له دلالات لغوية جوهرية فكأنه يعاتبنا تنمويا، إما على انحراف المسار، وإما القصور فكأن الخط البياني لمؤشر التنمية أقصر من خط الأرقام المجاور من المال وهو ما نمتلكه على قول المثل الإنجليزي: ثروة هائلة ولكن سوء في التوزيع. لي كوان يو، نسخة متطورة من صنوه الآسيوي الآخر، مهاتير محمد، بل هو بلا تحفظ قدوته وإضاءة دربه. لي كوان يو هو من حول سنغافورة من أرخبيل صغير يغطيه مسكن الصفيح إلى مدينة ذكية تفرض ضريبة على من يجرؤ على تشويه أرصفتها المدهشة بقطعة "لبان" ناهيك عن مرحلة تنمية ـ الإنسان ـ ما بين تلك الصورتين.

لو كنت سعوديا، ونحن بكل فخر ملوك هذه الهوية فماذا سنفعل؟ الجواب، بالإجابة على الأسئلة الكبرى وعلى الأفكار الاستراتيجية العليا، لكننا للأسف الشديد استغرقنا وقتا طويلا حتى غرقنا في التفاصيل. أبرز الأسئلة الكبرى، ليس إلا سؤال الهوية، ولكم أن تعلموا أن المتحدث السنغافوري، والد بلده الحديث، لم يكن من الملايو أهل الجذر الأصل المستوطن للجزيرة، بل من ملامح الجالية الصينية الوافدة إلى المكان مثلما هي الجالية اليوم وثلث الملاويين في تناغم مندهش لأنها شعوب حسمت بكل انسيابية واقتدار مسألة الانتماء والهوية لصالح المشروع الوطني الواحد. أما نحن فخطابات شتى تتناقض مع خطاب الهوية. كان بعض أطفالنا حتى الأمس "لا أدري عن اليوم" يذهبون إلى مقاعد الدراسة ثم يفتحون صفحات مقرر ـ التوحيد ـ ليقرؤوا كلاما مكتوبا يتناقض مع مشروع الوحدة. كانت الأسطر حتى الأمس "لا أدري عن اليوم" تضخ كل مفردات التكفير والفئوية المذهبية التي تقسم الوطن إلى ـ كانتونات ـ مرجعية مذهبية لم يسلم منها أحد. كانت ولاتزال "ربما" تصنيفا بغيضا حتى داخل الفصيل الواحد بافتراضه متناغما في الأصل، وإذا بهم داخل المقرر المدرسي أصناف وصنوف شتى لأن بذرة الفرقة حين تزرع تمتد مثل شجيرة "الورد الجهنمي" فلا أظن أن بلدا واحدا يشابهنا اليوم في خطاب الإقصاء المتطرف المتجاذب بين كل الأطراف فلن أستثني منه خطابا واحدا مؤدلجا من يمين الأصولية حتى يسار الليبرالية. وما لم يكمله المنهج على الورق المكتوب، تنهيه أدلجة المنهج الشفهي وحسبك أن تبرهن الحالة عن أستاذ جامعي لم يشف غليله ما هو مكتوب في منهجه ليبادر بالقول في محاضرة عامة إن أهل المنطقة "الفلانية" أشد كفرا من اليهود والنصارى، وهو بالتأكيد يمارس ذات الذي يفعله بضعة آلاف في المدارس الرسمية بطولها وعرضها من قدح وشتم وتصنيف وتعريض حتى ليخال للبعض أن نظامنا التعليمي مجرد غطاء كبير لا يدرس فيه غير كتاب افتراضي عن الملل والنحل والأفكار والمدارس المعاصرة. هذه المتناقضات لا تصنع هوية، ناهيك عن أنني لم أعرج على الأدبيات الضخمة بيننا التي تسفه حتى مجرد النطق بأي مشتقات ومرادفات من دائرة كلمة "الوطن" ولكم تذهلني مشاهداتي من هنا أو هناك وقد وقفت واجما ذات يوم محاضرا أمام ألف شخص وإذا بأحدهم وممن يظن أنه قائد رأي وقد وقف واثقا أمام "لاقط الأسئلة" ليطلب من فضيلة الشيخ المحاور الآخر في ذات المحاضرة أن يعطيه الأدلة من الكتاب والسنة على جواز فكرة "الوطن" وعلى تأصيل مفهوم الهوية. وقفت مذهولا لا للسؤال بعد سنين من الوحدة ولكن من الجرأة على أن يصرح برأيه أمام ألف شخص في قاعة رسمية عامة، وعجبت أكثر من هذا لأن بلده "الأوحد" قد استثمر فيه شخصا ما يفوق الملايين شرقا وغربا حتى وصل لما هو إليه علما ومنصبا فما زال يلوك أمام الملأ أسئلة الهوية. هو مجرد مثال من بين كل ما تعرفون من نظائر وسأواصل صراحتي إن قلت إن هذه المتناقضات التي تحيا بيننا لا تصنع هوية. نلوك على الدوام معجزة ماليزيا مثلما نلوك قصة سنغافورة ومثلما تنضح أدبياتنا الشتى بتجربة الهند ونأمل على الدوام أيضا تقليد هذه القصص ولكننا في حقيقة الأمر لم نسأل أنفسنا عن أعمدة وقواعد التجربة التي انطلقت منها تلك البلدان فلو أننا بالفعل بدأنا خطوة أولى نحو مسيرة المحاكاة التي نأمل ونتأمل لكان أول اصطدامنا ليس إلا بواحدة من تناقضاتنا الداخلية الجوهرية: كيف نكذب على أنفسنا بالرغبة في محاكاة قصص النجاح لهذه النمور دون أن نعرف أن نجاحها الأزلي لم يكن لولا قدرتها المدهشة على توظيف التباينات وعلى القبول بالاختلافات وعلى القدرة على تحويل هذه المتناقضات إلى مصدر قوة؟ المركب الكيميائي لا يقوم على نقاء العنصر، بل على النجاح في مزج عنصرين، والعنصر وحده إن ظل كما هو، سيبقى مادة خام خاملة لا تتفاعل ولا تؤثر أو تتأثر.

لو كنت سعوديا، ونحن بكل فخر ملوك هذه الهوية الغالية، لأجبت، والجواب في الأسئلة الكبرى وعلى رأسها التعليم. المليارات من العوائد الضخمة قد تصنع طوبا وقد تبني مدنا وهي قد فعلت. مازال لي كوان يو حيا يتحدث حتى اللحظة فلا أعرف كم عمره حتى اليوم ولكنني أعرف ـ مثلما قال ـ إنه كان في سن الأربعين عندما أسس لجامعة سنغافورة الوطنية على الورق لتتربع اليوم كخامس أفضل جامعة أبحاث في العالم. ابتدؤوا بعدنا بسنين طويلة وللمفارقة أننا نستورد من بلدهم أول رئيس لأول جامعة سعودية بحثية خالصة. ماليزيا اليوم قبلة أعضاء هيئة التدريس السعوديين من طالبي التفرغ العلمي أو المؤتمرات المتخصصة ويقام فيها هذا العام وحده في تخصصي "الخاص" 17 مؤتمرا عالميا على حين لم يشهد ذات التخصص طوال كل تاريخنا التعليمي، فيما أعلم غير ندوة يتيمة واحدة، ولحسن الحظ كانت محلية خالصة بثلاثة ضيوف شرف من الخارج. مازال تعليمنا من الألف حتى نقاط الياء أسيرا للمدارس التي تقوم قيامتها إن تجرأ فرد بالتشكيك في سلامة سطر ناهيك عن أن نحذف صفحة وإذا أردتم دليلا فراقبوا جداول أولادكم لامتحانات نصف العام لتعرفوا أنهم، ولأسبوعين، سيذهبون لحسبة يوم في الحساب والعلوم والبقية لكل ما هب ودب. تعليمنا لم ولن يصنع نهضة ولن يخلق أمة وكل ما يحويه لم يكن بأكثر من برنامج متطور لمحو الأمية من أول همزة الألف حتى آخر نقاط الياء. من ذا الذي سيجرؤ على حذف مقرر أو دمجه ناهيك عن أن يجرؤ على أن يشطب أسبوعا كاملا من مقررات الحفظ. انتهت المساحة.

عضو هيئة التدريس في جامعة الملك سعود