ملتقى طلاب وطالبات جامعة الملك فيصل,جامعة الدمام

للكتابة مريم محمد الغامدي

المطر شلال فرح دائم في قريتنا الصغيرة النائمة في حضن الجبل ... يغمر الحقول العطش في وادينا .. حقول الذرة تتمايل منتشية على أنغام معازف الغيوم .
نجمع اللآلئ المتناثرة من مجرات السحب المسافرة .. تنظمها عقود خصب ونماء .. أهل الوادي يركضون في كل اتجاه .. النساء يحملن ( القضب ) و ( القصيل ) الذي جمعنه (زادا ) للحلال ، الأطفال يتقافزون من بيت لآخر في سرور وجذل .. الرعاة ( يروحون ) بأغناهم من المرعى .. حماة المحاصيل يتركون مهمتهم للمطر باطمئنان .. فالطيور التي تنقر حبات العنب والمشمش والرمان .. تمارس الحب والدفء الآن .. الضفادع تختبئ في جحورها .. ( تسخن ) حناجرها لحفلات السمر الليلية بعد انتهاء معزوفة المطر .
احمل قربتي المعلقة على ( المزرح ) ذلك العمود الخشبي المنقوش بالرسوم البدائية العيرقة .. في كل مجلس من بيوت القرية يتوسطه .. على ( المزرح) نعلق ملابسنا ... (( ميزب )) الأطفال .. قربنا .. أشياؤنا الأخرى ، و.. همومنا .. أتلفح ( بحوكتي البيضاء ) اركض تحت المطر .. (دوشة ) عجوز بيت أخوالي تجلس أمام دارها .. على العتبة التي تشرف على حقول الوادي .. قبل ليل كانت ( تحتضن ) الشكوة تضعها على ركبتها .. تحتضنها .. تسترخي على أنغام اللبن
في داخلها ( الحقينة والدهانة ) .. ترسل عينيها إلى الوادي ... وفكرها إلى الماضي الجميل حيث كانت عروس المروج .. وهذا الوادي الأخضر الذي ولدت فيه ولم تبارحه حتى الآن تقف .. ركبتاها مقوستان .. ظهرها ينوء بحمل السنين.
يا ( مهرة ) الغنم والسيل يا ( مهرة ) ...... السفان والسيل يا (مهرة ) .. محاولة إثبات وجود تحذير ترسخ في الأعماق منذ أول إطلاله على الوادي .. انطلق إلى البئر .. انحشر بين الصبايا نملأ .. (قربنا) .. ضحكاتنا تكللها أغنيات المطر ... الذي يمتص كل وجدانياتنا .. ينثرها وأحلامنا
قصائد حب .. يغرسها في رحم الأرض الجذلى ... الشباب في وادينا مهمتهم (( التسوق )) والحفاظ علينا وعار أن يحمل عنها المحصول على ظهره .
ترى لو زلقت يوما جوار البئر هل تحمل عني قربتي يا (غرم الله )؟
نلتقي قرب ( المسيال ) ... تحذيرات جدتي (( دوشة )) وعجائز الدوار والوادي تكبر في أذني .. اذهب إلى (المسيال ) لا تفقد .. ( الغنم والسيل يا مهرة ) ... ( السفان والسيل يا مهرة ) .
تحذرني من ركض السيل المجنون .. الذي يسافر بحمله إلى اللاعودة .. إلى الضياع والموت . . (مسفرة ) البلهاء قفزت خلف ( شاتها ) ذات يوم في السيل ..
ولم تعد .
هذه الآن ... ترى أين ذهب بها هذا (( الغول )) المخيف ؟؟ أين أنت يا (( مسفرة)) ؟
آه .. هذا السيل الهادر .. كم جرف من ضحايا وحكايا .
رغم قوة انهمار المطر .. اسمع صرخات ألم شديدة .. أركض وإياك .. نجتاز الحقول حيث الصراخ والأنين .. المطر يحاول عرقلتنا يلفنا مبتلين .. ( قربتي )) المملوءة ماء تعثر خطوي .
آه .. إنها (( فكرة )) ابنة خالي ..
أراك تدير وجهك بسرعة عنها .. كفك تشير إليها .. اسمع بكاء غريبا .. وضعت ((فكرة )) مولودها في الحقل تحت المـطـر .. لا أحـد عندها .. تركض تنادي نسـاء الـقريـة .. أضـع (قـربتي )الثقيلة .
أغطي (( فكرة )) (( بحوكتي )) الصغيرة يصرخ .. ترتعد بردا وألما .. لا أحد بجوارها حزمة كبيرة من (( القصيل )) جمعتها عشاء (( الحلال )) أحل الحزمة من (( المعصب )) الذي حزمتها به ..
أحاول لف الصغير بها . . آه .. ما زال ملتصقا بأمه .. لم تنته الولادة بعد .. لم أرى هذا المشهد من قبل ..
تطلب منى بوهن أن أسحبه .. ولكني خائفة ..
المطر ما زال يتساقط .. ( سأموت إذا لم تفعلها ) ..
استمع شجاعتي القروية .. ( البرد يتساقط على رؤوسنا .. منظر فظيع .. دم .. دماء .. مطر .. حياة .. خوف .. أمل ).
النساء قادمات .. الرجال يركضون .. المطر يرسل قطرات قاسية .. البرد يتناثر .. البرق لحظات ضوء ..
تضغط على يدي بحب وحنان .. وبعدها كلما جاء المطر تذكرتك ((وفكرة )) تلك التي وضعت بكرها أي طفلها الأول في الحقل .. تحت المطر والبرق والبرد .